َفصَلَ البرلمان الجزائري، كما كان متوقعاً، في مشروع القانون المقدم من طرف رئيس الجمهورية في شأن تعديل المادة الرابعة والسبعين(74) من دستور 1996، التي تحظر الترشح إلى الرئاسة أكثر من ولايتين، كما جاءت نتيجة التصويت مؤيدةً بشكل شبه إجماعي للمشروع، حيث أجازه خمسمئة من أعضاء البرلمان المجتمع بمجلسيه، وعارضه واحد وعشرون، في ما إمتنع ثمانية عن التصويت.
والحال أن النتيجة لم تشكل حدثاً في حدِّ ذاتها بالنظر لطبيعة التوازنات داخل المؤسسة التشريعية، حيث يستحوذ التحالف الرئاسي ـ المكون من "جبهة التحرير الوطني"، و" التجمع الوطني الديمقراطي" و" حركة مجتمع السلم"ـ على الأغلبية الساحقة في غرفتي البرلمان.. بيد أن الذي شكل موضوع جدل منذ مدة، وسيتواصل النقاش حوله مستقبلاً، الأبعاد والمقاصد التي حكمت لجوء الرئيس إلى طرح التعديل على البرلمان أولاً قبل إستطلاع رأي الشعب حوله في إستفتاء لاحق. فدستورياً، أعطت المادة 174لرئيس الجمهورية"حق المبادرة بالتعديل الدستوري.."، كما سمحت له، بعد تصويت مجلسي البرلمان، بطرح التعديل على الإستفتاء الشعبي خلال الخمسين يوماً الموالية لإقراره، وفي السياق نفسه، أجازت المادة السابعة والسبعون بعد المائة(177) لثلاثة أرباع أعضاء مجلسي البرلمان المجتمعين في جلسة مشتركة بالتقدم بمبادرة التعديل للرئيس بغية عرضها على الإستفتاء، مما يعني أن المبادرة بالتعديل حق مشترك بين مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية.
يطرح التعديل المصادق عليه من قبل البرلمان يوم الأربعاء 12 تشرين الثاني 2008 سلسلةً من التساؤلات حول أسباب نزوله، ومقاصده، والآثار الممكنة والمحتملة له، وهي في الواقع إستفهامات من طبيعة دستورية وسياسية.فإذا كانت أحكام الدستور واضحة في موضوع التقدم بمبادرة من أجل التعديل، حيث يحق للرئيس والبرلمان على حد سواء إعمال المادتين (174 و177) المومإ إليهما أعلاه، فإن روح الدستور ومنطق السياسة يقتصيان في مثل هذه الحالات ذات الصلة بمراجعة أحكام القانون الأساسي، توسيع قاعدة الحوار والمناقشة، وبناء التأييد لمنح مقاصد التعديل قدراً معقولاً من القبول الطوعي والشرعية، بغية ضمان استقرار وفعالية الآثار المنتظرة من عملية مراجعة الدستور، حتى وإن كانت النتيجة الإيجابية مضمونة مسبقاً، كما هو الأمر في حالة الجزائر.
فهكذا، يحيلنا تعديل المادة الرابعة والسبعين من دستور الجزائر على نقاش على بالغ الأهمية في الفقه الدستوري الحديث، يتعلق الأمر بالعلاقة المطلوبة بين الأغلبية والأقلية، أو الأكثرية الحاكِمة والمعارضة. فمما لاشك فيه، كما يذهب إلى ذلك "غيرفيتش"، أن "الديمقراطية ليست حكم العدد، ولكنها حكم القانون"، الذي يتأسس في جوهره على الحوار والتوافق وسلطان الإرادة. لذلك، ننتظر من التعديل الدستوري الحالي في الجزائر أن يفتح نقاشاً داخل الطبقة السياسية، ومن المفترض أن يمتد، عبر مختلف الوسائط، إلى قطاعات واسعة من المجتمع، بسبب أنه مسَّ قاعدة دستورية مهمة من الناحية السياسية، أي تحديد ولاية الرئيس في عُهدتين اثنتين لا ثالثة لهما،ونميل إلى الظن أن المشرع الدستوري كان واعياً أهمية هذا التحديد، والإمكانيات التي يفتحها على صعيد تجديد التعاقب على مؤسسة الرئاسة، كما هو حاصل في دساتير دول عديدة، وإن كانت شروطها مختلفة عن واقع الحالة الجزائرية.
تضمنت خطب الرئيس "عبدالعزيز بوتفليقة"، وتصريحات شركائه في السلطة، أي رئيس الحكومة والبرلمان، سلسلة من المسوغات لتبرير اللجوء إلى إبطال أحكام المادة الرابعة والسبعين، وفتح الطريق أمام ترشح الرئيس لأكثر من ولايتين. فمما ورد في إحدى خطبه قوله:" إن الشعب يملك الحق في ممارسة حقه المشروع في إختيار من يقود مصيره، وأن يجدد الثقة فيه بكل سيادة إذ لا يحق لأحد أن يقيد حرية الشعب في التعبير عن إرادته، فالعلاقة بين الحاكم المنتخَب والمواطن الناخب هي علاقة ثقة عميقة متبادلة، قوامها التزكية بحرية وقناعة.. "، ليضيف في السياق نفسه" إن التداول الحقيقي على السلطة ينبثق عن الإختيار الحر الذي يقرره الشعب بنفسه، وعندما تتم إستشارته بكل ديمقراطية وشفافية في إمنتخابات حرة وتعددية..إذن للشعب والشعب وحده تعود سلطة القرار..".
فهكذا، يتبين تأسيس إختيار الرئيس اللجوء إلى التعديل على مبررات تبدو متماسكة ومنطقية من حيث ظاهر الأشياء.. بيد أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد في فهم منطلقات التعديل، والديناميات التي من المتوقع أن يفتحها مستقبلاً، لاسيما من زاوية توسيع دائرة الحوار الوطني بين مختلف مكونات الحياة السياسية، والدفع بالجزائر في إتجاه كسب التأييد حول التغييرات العميقة التي يجب أن تطال بنية السلطة وواقع النظام السياسي. يّذكر أن الإنتخابات التشريعية الأخيرة التي أفرزت البرلمان الحالي شهدت أضعف نسبة المشاركة في تاريخ الإقتراعات التشريعية، كما أثارت، في حينها، ردود فعل قوية من لدن الطبقة السياسية بخصوص مصادر إستنكاف وتراجع مشاركة الجسم الإنتخابي، كما ذهبت بعض التحليلات في وقتها إلى الربط بين العزوف المتزايد وتصاعد موجات العنف في الجزائر. لذلك، تدعو وجهات نظر من داخل المعارضة الحزبية إلى ضرورة تجديد الممارسة السياسية الجزائرية، وتوجيهها في إتجاه مزيد من الدمقرطة والإنفتاح، والمصارحة مع المواطنين الذين ضاقوا ذرعاً بمراكمات التجارب السابقة.
ففي تصريحات وبيانات القوى الرئيسية في المعارضة، أي "جبهة القوى الإشتراكية:، و"التجمع من أجل الثقافة الديمقراطية"، وتنظيمات أخرى من ألوان وآفاق مختلفة، إلى أن التعديل الدستوري لا يعدو أن يكون مناورة لإعادة ترشيح الرئيس "عبدالعزيز بوتفليقة" لولاية ثالثة، وأنه إذا كان الدستور يعطي لمؤسسة الرئاسة صلاحية التعديل بواسطة قانون يوافق عليه من طرف البرلمان ويعرض على الإستفتاء، فإن تعزيز الديمقراطية يستلزم تكريس تقاليد من شأنها المساهمة في توطين مفهوم التعاقب والتداول على السلطة في الحياة السياسية الجزائرية، وفي مقدمتها حصر الرئاسة في ولايتين، أي المحافظة على شرعية المادة الرابعة والسبعين من الدستور، كما أقرتها وثيقة العام 1996.
المصدر: جريدة "المستقبل" اللبنانية والكاتب مدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية بمراكش في المغرب
